نسخ من
مقال نشر في صحيفة الغد
'كانت جملة رجال الدين المسيحي والإسلامي في العصور الوسطى يعتقدون أن الفلسفة والمنطق عدوان للدين، وأن تعلمهما يجعل الفرد يشك في صحته، أو يكفر به ويرتد عنه. وقد شبه رجال الدين المسلمون في حينه تعلم المنطق بتعلم الزندقة، فقالوا: "من تمنطق فقد تزندق". غير أنه لما كان غير ممكن منع التفلسف والتمنطق بحكم الدهشة وحب الاستطلاع والمعرفة عند الإنسان، فقد اضطر رجال الدين إلى تعلّم الفلسفة والمنطق وتعليمهما، للدفاع عن الدين والتصدي للمجدفين والمهرطقين والمارقين.
ولما بلغت الحضارة العربية الإسلامية أوجها في القرن الرابع الهجري؛ نتيجة انهيار السلطة المركزية وتفشي الانقسام السياسي، وتنافس الدويلات المسلمة المستقلة على رعاية الفلسفة والآداب والعلوم والفنون، رأيت الفلسفة والمنطق يزدهران، والمناظرات بين الفلاسفة تنتشر في كل مكان، ما اضطرهم إلى وضع قواعد للمناظرة: "اجتمع متكلمان (فيلسوفان إسلاميان) فقال أحدهما للآخر: هل لك في المناظرة؟ فقال: على شرائط: أن لا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت لي تأويلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلاً منا يبني مناظرته على أن الحق ضالته، والرشد غايته".
ولما بلغت الحضارة العربية الإسلامية أوجها في القرن الرابع الهجري؛ نتيجة انهيار السلطة المركزية وتفشي الانقسام السياسي، وتنافس الدويلات المسلمة المستقلة على رعاية الفلسفة والآداب والعلوم والفنون، رأيت الفلسفة والمنطق يزدهران، والمناظرات بين الفلاسفة تنتشر في كل مكان، ما اضطرهم إلى وضع قواعد للمناظرة: "اجتمع متكلمان (فيلسوفان إسلاميان) فقال أحدهما للآخر: هل لك في المناظرة؟ فقال: على شرائط: أن لا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلاً، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت لي تأويلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلاً منا يبني مناظرته على أن الحق ضالته، والرشد غايته".
ولأن انتشار الفلسفة والمنطق زاد على حده في نظر الإمام أبي حامد الغزالي (المتوفى عام 505هـ)، فقد تحول إلى ضدهما، وألف كتابه المشهور "تهافت الفلاسفة" الذي وقف رجال الدين آنذاك بين مؤيد له ومعارض. ولما وقع كتاب الغزالي بين يدي فيلسوف الأندلس الأعظم أبو الوليد بن رشد، المولود بعد وفاة الغزالي بخمس عشرة سنة، استفزه ما جاء فيه، فنهض للرد عليه؛ فقرة فقرة، وفكرة فكرة، بكتاب سماه "تهافت التهافت". كان هدف ابن رشد كهدف الغزالي؛ الدفاع عن الإسلام، ولكن بالفلسفة والمنطق والبرهان. كما ألف ابن رشد كتاباً آخر سماه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، للدفاع عن الدين بالفلسفة
ونظراً لشهرة ابن رشد في الأندلس وأوروبا، وتقريب الأمير له، فقد حسدته البطانة وتآمرت مع رجال الدين السذج عليه، وحرضوا الأمير عليه، فحوكم في جامع قرطبة الكبير (عام 591هـ) بتهمة الكفر والزندقة. ولكنه دافع عن فكره ببسالة، إلا أن الحكم صدر بحرق جميع كتبه ما خلا ما له علاقة بالطب لحاجة البلاط إليه، وبالفلك والحساب لحاجة المسلمين إليها في المواقيت. ونُفي خارج قرطبة إلى قرية أليسانة اليهودية، فأشاع خصومه وأعداؤه أنه يهودي الأصل، كالعادة المتبعة إلى اليوم أو الموروثة عن الأسلاف عن اتهام بعض الزعماء العرب بذلك. ولما ضج بعض الناس احتجاجاً على المعاملة المذلة لابن رشد، أصدر الأمير بياناً متغطرساً يشرح فيه أسباب اضطهاد ابن رشد، وأنه للدفاع عن الدين الحنيف؛ الحجة القديمة الجديدة الدائمة كلما احتاجوا إلى اضطهاد مفكر أو فيلسوف.
لم تقتصر النقمة على ابن رشد، بل شملت كل المنشغلين بالفلسفة والمنطق الذين شردوا في الأفاق. لكن محنة ابن رشد لم تدم طويلاً، فقد عفا عنه الأمير لحاجته إليه لتعلّم الفلسفة والمنطق. لكن هذا الود لم يدم طويلاً، فقد نُفي ثانيةً ولكن إلى مراكش حيث مات بعيداً عن وطنه (عام 595هـ).
يذكرني حرق كتب ابن رشد في القرن الخامس الهجري بحرق التلاميذ والمعلمين والجمهور للكتب الإسلامية المدرسية في القرن الحادي والعشرين. فما أشبه الليلة بالبارحة؟ '
تعليق
ديفيد هيوم، أحد الفلاسفة المرموقين في القرن الثامن عشر,
أشار أن المنطق وحده لا يمكن أن يكون الدافع لإرادة، بل المنطق
هو "عبد الأهواء" حيث لا تستمد المواقف الأخلاقية من المنطق. إذا نظرنا
حجته، يمكننا أن نستنتج أن المنطق - كمفهوم مجرد - يتأثر بالضرورة
بالقيم ، ويجعل المواقف أخلاقية وغير أخلاقية بناء على الفضيلة، وليس المنطق. وبالتالي، فإن المخاوف التي عبر عنها
المحافظون حول التعاليم الفلسفية هي شهادة على حقيقة أن البوصلة الأخلاقية في
العديد من الدول مبنية على أسس ضعيفة. الأخلاق أن يبررها القصاص بدلا من فضيلة
يمكن أن تؤدي إلى تغذية المخاوف في العالم العربي من التعمق في الفلسفة.
Comments
Post a Comment